فصل: تفسير الآية رقم (246)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏241‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏241‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَلِمَنْ طُلِّقَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى مُطَلِّقِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ، “مَتَاعٌ“‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ مَا تَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ ثِيَابٍ وَكُسْوَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ خَادِمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَمْتَعُ بِهِ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مَعْنَى ذَلِكَ، وَاخْتِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَعْنِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهَا الثَّيِّبَاتُ اللَّوَاتِي قَدْ جُومِعْنَ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ ‏[‏الْحُقُوقَ اللَّازِمَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ‏]‏ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ فِي الْمُتْعَةِ، قَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا، فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ أَمْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ فِي ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْمَرْأَةُ الثَّيِّبُ يُمَتِّعُهَا زَوْجُهَا إِذَا جَامَعَهَا بِالْمَعْرُوفِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ‏:‏ ذَكَرَهُ شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ، وَإِنَّمَا أَنْـزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ آيِ الْمُتْعَةِ، إِذْ كَانَ مَا سِوَاهَا مِنْ آيِ الْمُتْعَةِ إِنَّمَا فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ غَيْرِ الْمَمْسُوسَةِ إِذَا طُلِّقَتْ، وَفِي هَذِهِ بَيَانُ حُكْمِ جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي الْمُتْعَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ- فِي الْأَمَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حُبْلَى- قَالَ‏:‏ تَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ لَمْ أَسْمَعْ فِي مُتْعَةِ الْمَمْلُوكَةِ شَيْئًا أَذْكُرُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏، وَلَهَا الْمُتْعَةُ حَتَّى تَضَعَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لَهُ‏:‏ أَلِلْأَمَةِ مِنَ الْحُرِّ مُتْعَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا‏.‏ قُلْتُ‏:‏ فَالْحُرَّةُ عِنْدَ الْعَبْدِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ نَعَمْ، ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا أَنْـزَلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 236‏]‏، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ فَإِنَّا لَا نَفْعَلُ إِنْ لَمْ نُرِدْ أَنْ نُحْسِنَ‏.‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏، فَوَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏}‏، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْـزَلَهَا دَلِيلًا لِعِبَادِهِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ذَكَرَ فِي سَائِرِ آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، خُصُوصًا مِنَ النِّسَاءِ، فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 236‏]‏، وَفِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْزَابِ‏:‏ 49‏]‏، مَا لَهُنَّ مِنَ الْمُتْعَةِ إِذَا طُلِّقْنَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَبِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْزَابِ‏:‏ 28‏]‏، حُكْمَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَبَقِيَ حُكْمُ الصَّبَايَا إِذَا طُلِّقْنَ بَعْدَ الِابْتِنَاءِ بِهِنَّ، وَحُكْمُ الْكَوَافِرِ وَالْإِمَاءِ‏.‏ فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ذِكْرَ جَمِيعِهِنَّ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُنَّ الْمَتَاعَ، كَمَا خَصَّ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَوْصُوفَاتِ بِصِفَاتِهِنَّ فِي سَائِرِ آيِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ ذِكْرَ جَمِيعِهِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ‏}‏، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ “حَقًّا“، وَوَجْهَ نَصْبِهِ، وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 236‏]‏، فَفِي ذَلِكَ مُسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

فَأَمَّا “الْمُتَّقُونَ“‏:‏ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوْا اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحُدُودِهِ، فَقَامُوا بِهَا عَلَى مَا كَلَّفَهُمُ الْقِيَامَ بِهَا خَشْيَةً مِنْهُمْ لَهُ، وَوَجَلًا مِنْهُمْ مِنْ عِقَابِهِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْوِيلِ ذَلِكَ نَصًّا بِالرِّوَايَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏242‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏242‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، كَمَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا يَلْزَمُكُمْ لِأَزْوَاجِكُمْ وَيَلْزَمُ أَزْوَاجُكُمْ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَرَّفْتُكُمْ أَحْكَامِي وَالْحَقَّ الْوَاجِبَ لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَذَلِكَ أُبَيِّنُ لَكُمْ سَائِرَ الْأَحْكَامِ فِي آيَاتِي الَّتِي أَنْـزَلْتُهَا عَلَى نَبِيِّي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِتَعْقِلُوا- أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِي وَبِرَسُولِي- حُدُودِي، فَتَفْهَمُوا اللَّازِمَ لَكُمْ مِنْ فَرَائِضِي، وَتَعْرِفُوا بِذَلِكَ مَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَعَاجَلِكُمْ وَآجِلِكُمْ، فَتَعْلَمُوا بِهِ لِيَصْلُحَ ذَاتُ بَيْنِكُمْ، وَتَنَالُوا بِهِ الْجَزِيلَ مِنْ ثَوَابِي فِي مَعَادِكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “أَلَمْ تَرَ“، أَلَمْ تَعْلَمْ، يَا مُحَمَّدُ‏؟‏ وَهُوَ مِنْ “رُؤْيَةِ الْقَلْبِ“ لَا رُؤْيَةِ الْعَيْنِ“، لِأَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدْرِكِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْخَبَرَ، و “رُؤْيَةُ الْقَلْبِ“‏:‏ مَا رَآهُ، عَلِمَهُ بِهِ‏.‏ فَمَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏؟‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “وَهُمْ أُلُوفٌ“‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ فِي الْعَدَدِ، بِمَعْنَى‏:‏ جِمَاعُ “أَلْفٍ“‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، قَالُوا‏:‏ “نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ فِيهَا مَوْتٌ “‏!‏ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ‏:‏ “مُوتُوا“‏.‏ فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْييَهُمْ، فَأَحْيَاهُمْ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُحْييَهُمْ حَتَّى يَعْبُدُوهُ، فَأَحْيَاهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ أَصَابَ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ، فَشَكَوْا مَا أَصَابَهُمْ وَقَالُوا‏:‏ “يَا لَيْتَنَا قَدْ مِتْنَا فَاسْتَرَحْنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ “‏!‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى حِزْقِيلَ‏:‏ إِنَّ قَوْمَكَ صَاحُوا مِنَ الْبَلَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ وَدُّوا لَوْ مَاتُوا فَاسْتَرَاحُوا، وَأَيُّ رَاحَةٍ لَهُمْ فِي الْمَوْتِ‏؟‏ أَيَظُنُّونَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَبْعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ‏؟‏ فَانْطَلِقْ إِلَى جَبَّانَةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، قَالَ وَهْبٌ‏:‏ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ‏:‏ “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ “ فَقُمْ فِيهِمْ فَنَادِهِمْ، وَكَانَتْ عِظَامُهُمْ قَدْ تَفَرَّقَتْ، فَرَّقَتْهَا الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ‏.‏ فَنَادَاهُمْ حِزْقِيلُ فَقَالَ‏:‏ “يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي “‏!‏ فَاجْتَمَعَ عِظَامُ كَلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَعًا‏.‏ ثُمَّ نَادَى ثَانِيَةً حِزْقِيلُ فَقَالَ‏:‏ “أَيَّتُهَا الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي اللَّحْمَ“، فَاكْتَسَتِ اللَّحْمَ، وَبَعْدَ اللَّحْمِ جِلْدًا، فَكَانَتْ أَجْسَادًا‏.‏ ثُمَّ نَادَى حِزْقِيلُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ‏:‏ “أَيَّتُهَا الْأَرْوَاحُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَعُودِي فِي أَجْسَادِكِ “‏!‏ فَقَامُوا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَدَدٌ كَثِيرٌ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا عَدُوَّهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَسْلَمَ الْبَصْرِيِّ قَالَ‏:‏ بَيْنَمَا عُمَرُ يُصَلِّي وَيَهُودِيَّانِ خَلْفَهُ وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ خَوَّى، فَقَالَ أَحَدُهُمْ لِصَاحِبِهِ‏:‏ أَهُوَ هُوَ‏؟‏ فَلَمَّا انْفَتَلَ عُمَرُ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ قَوْلَ أَحَدِكُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ أَهُوَ هُوَ‏؟‏ فَقَالَا‏:‏ إِنَّا نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا‏:‏ “قَرْنًا مِنْ حَدِيدٍ، يُعْطَى مَا يُعْطَى حِزْقِيلُ الَّذِي “أَحْيَا الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ“‏.‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ “ حِزْقِيلَ “ وَلَا “أَحْيَا الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ“، إِلَّا عِيسَى‏.‏ فَقَالَا‏:‏ أَمَا تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ‏{‏وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏}‏، ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 164‏]‏، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ بَلَى‏!‏ قَالَا‏:‏ وَأَمَّا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى فَسَنُحَدِّثُكَ‏:‏ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْوَبَاءُ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ، فَبَنَوْا عَلَيْهِمْ حَائِطًا، حَتَّى إِذَا بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ بَعَثَ اللَّهُ حِزْقِيلَ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ قَالَ‏:‏ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ثُمَّ أَحْيَاهُمْ“، قَالَ‏:‏ كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ قِبَلَ وَاسِطٍ، وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَـزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا، فَهَلَكَ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الْآخَرُونَ، فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَبِيرٌ‏.‏ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا‏:‏ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا‏!‏ وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ‏!‏ فَوَقَعَ فِي قَابِلٍ فَهَرَبُوا، وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، حَتَّى نَـزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ، فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ‏:‏ أَنْ مُوتُوا‏!‏ فَمَاتُوا، حَتَّى إِذَا هَلَكُوا وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ وَيَلْوِي شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ يَا حِزْقِيلُ، أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ فِيهِمْ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ نَادِ‏!‏ فَنَادَى‏:‏ “يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي‏!‏“، فَجَعَلَتْ تَطِيرُ الْعِظَامُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ نَادِ‏:‏ “يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا“، فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا، وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَيْهَا‏.‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُ‏:‏ نَادِ‏!‏ فَنَادَى‏:‏ “يَا أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي“، فَقَامُو‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، قَالَ‏:‏ فَزَعَمَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ أُحْيُوا‏:‏ “سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ“، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى، سَحْنَةُ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ دَسِمًا مِثْلَ الْكَفَنِ، حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَقَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْسَجَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ، حُظِرَ عَلَيْهِمْ حَظَائِرُ، وَقَدْ أَرْوَحَتْ أَجْسَادُهُمْ وَأَنْتَنُوا، فَإِنَّهَا لَتُوجَدُ الْيَوْمَ فِي ذَلِكَ السِّبْطِ مِنَ الْيَهُودِ تِلْكَ الرِّيحُ، وَهُمْ أُلُوفٌ فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ “وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ “ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ كَالِبَ بْنَ يُوقِنَا لَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ بَعْدَ يُوشَعَ، خَلَّفَ فِيهِمْ- يَعْنِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ- حِزْقِيلَ بْنَ بِوَزْي وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ “ابْنَ الْعَجُوزِ “ أَنَّهَا سَأَلَتِ اللَّهَ الْوَلَدَ وَقَدْ كَبِرَتْ وَعَقِمَتْ، فَوَهَبَهُ اللَّهُ لَهَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ “ابْنُ الْعَجُوزِ “ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَلَّغَنَا‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِرَارًا مِنْ بَعْضِ الْأَوْبَاءِ مِنَ الطَّاعُونِ، أَوْ مِنْ سُقْمٍ كَانَ يُصِيبُ النَّاسَ حَذَرًا مِنَ الْمَوْتِ، وَهُمْ أُلُوفٌ، حَتَّى إِذَا نَـزَلُوا بِصَعِيدٍ مِنَ الْبِلَادِ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ‏:‏ “مُوتُوا“، فَمَاتُوا جَمِيعًا‏.‏ فَعَمَدَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ السِّبَاعِ، ثُمَّ تَرَكُوهُمْ فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَثُرُوا عَنْ أَنْ يُغَيَّبُوا‏.‏ فَمَرَّتْ بِهِمُ الْأَزْمَانُ وَالدُّهُورُ، حَتَّى صَارُوا عِظَامًا نَخِرَةً، فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ بْنُ بِوَزَى، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَتَعَجَّبَ لِأَمْرِهِمْ وَدَخَلَتْهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَتُحِبُّ أَنْ يُحْيِيَهُمُ اللَّهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ نَادِهِمْ فَقُلْ‏:‏ “أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الرَّمِيمُ الَّتِي قَدْ رَمَّتْ وَبَلِيَتْ، لِيَرْجِعْ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى صَاحِبِهِ“‏.‏ فَنَادَاهُمْ بِذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَى الْعِظَامِ تَوَاثَبُ يَأْخُذُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏.‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُ‏:‏ قُلْ‏:‏ “أَيُّهَا اللَّحْمُ وَالْعَصَبُ وَالْجِلْدُ، اكْسُ الْعِظَامَ بِإِذْنِ رَبِّكَ“، قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَالْعَصَبُ يَأْخُذُ الْعِظَامَ ثُمَّ اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ وَالْأَشْعَارَ، حَتَّى اسْتَوَوْا خَلْقًا لَيْسَتْ فِيهِمُ الْأَرْوَاحُ‏.‏ ثُمَّ دَعَا لَهُمْ بِالْحَيَاةِ، فَتَغَشَّاهُ مِنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ كَرَبَهُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ، ثُمَّ أَفَاقَ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ يَقُولُونَ‏:‏ “سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ “ قَدْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ “وَهُمْ أُلُوفٌ “ وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَرْيَةٌ كَانَتْ نَـزَلَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ، فَأَلَحَّ الطَّاعُونُ بِالطَّائِفَةِ الَّتِي أَقَامَتْ، وَالَّتِي خَرَجَتْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ‏.‏ ثُمَّ ارْتَفَعَ، ثُمَّ نَـزَلَ الْعَامَ الْقَابِلَ، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي خَرَجَتْ أَوَّلًا فَاسْتَحَرَّ الطَّاعُونُ بِالطَّائِفَةِ الَّتِي أَقَامَتْ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّالِثُ، نَـزَلَ فَخَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏، لَيْسَتِ الْفُرْقَةُ أَخْرَجَتْهُمْ، كَمَا يُخْرَجُ لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، قُلُوبُهُمْ مُؤْتَلِفَةٌ، إِنَّمَا خَرَجُوا فِرَارًا‏.‏ فَلَمَّا كَانُوا حَيْثُ ذَهَبُوا يَبْتَغُونَ الْحَيَاةَ، قَالَ لَهُمُ اللَّهُ‏:‏ “مُوتُوا“، فِي الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ يَبْتَغُونَ فِيهِ الْحَيَاةَ‏.‏ فَمَاتُوا، ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ وَهِيَ عِظَامٌ تَلُوحُ، فَوَقَفَ يَنْظُرُ فَقَالَ‏:‏ “أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا“، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ‏.‏

ذِكْرُ الْأَخْبَارِ عَمَّنْ قَالَ‏:‏ كَانَ خُرُوجُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، قَالَ‏:‏ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، فَأَمَاتَهُمْ قَبْلَ آجَالِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِلَى آجَالِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ‏:‏ “مُوتُوا “‏!‏ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيُكْمِلُوا بَقِيَّةَ آجَالِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي قَرْيَتِهِمْ، فَخَرَجَ أُنَاسٌ وَبَقِيَ أُنَاسٌ، فَهَلَكَ الَّذِينَ بَقُوا فِي الْقَرْيَةِ، وَبَقِيَ الْآخَرُونَ‏.‏ ثُمَّ وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي قَرْيَتِهِمُ الثَّانِيَةِ، فَخَرَجَ أُنَاسٌ وَبَقِيَ أُنَاسٌ، وَمَنْ خَرَجَ أَكْثَرُ مِمَّنْ بَقِيَ‏.‏ فَنَجَّى اللَّهُ الَّذِينَ خَرَجُوا، وَهَلَكَ الَّذِينَ بَقُوا‏.‏ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ خَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ وَدَوَابَّهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ ‏[‏وَقَدْ أَنْكَرُوا قَرْيَتَهُمْ، وَمَنْ تَرَكُوا‏]‏‏.‏ وَكَثُرُوا بِهَا، حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ مَنْ أَنْتُمْ‏؟‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍقَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ‏:‏ وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي قَرْيَتِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏ الْآيَةَ، مَقَتَهُمُ اللَّهُ عَلَى فِرَارِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ عُقُوبَةً، ثُمَّ بَعَثَهُمْ إِلَى بَقِيَّةِ آجَالِهِمْ لِيَسْتَوْفُوهَا، وَلَوْ كَانَتْ آجَالُ الْقَوْمِ جَاءَتْ مَا بُعِثُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ إِذَا وَقَعَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ خَرَجَ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ، وَأَقَامَ فُقَرَاؤُهُمْ وَسِفْلَتُهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ عَلَى الْمُقِيمِينَ مِنْهُمْ، وَنَجَا مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ‏.‏ فَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا‏:‏ لَوْ أَقَمْنَا كَمَا أَقَامَ هَؤُلَاءِ، لَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا‏!‏ وَقَالَ الْمُقِيمُونَ‏:‏ لَوْ ظَعَنَّا كَمَا ظَعَنَ هَؤُلَاءِ، لَنَجَوْنَا كَمَا نَجَوْا‏!‏ فَظَعَنُوا جَمِيعًا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، أَغْنِيَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ وَفُقَرَاؤُهُمْ وَسِفْلَتُهُمْ‏.‏ فَأُرْسِلَ عَلَيْهِمُ الْمَوْتُ فَصَارُوا عِظَامًا تَبْرُقُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَهُمْ أَهْلُ الْقُرَى فَجَمَعُوهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَمَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَحْيَيْتَ هَؤُلَاءِ فَعَمَّرُوا بِلَادَكَ وَعَبَدُوكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَفْعَلَ‏؟‏ قَالَ نَعَمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَقُلْ‏:‏ كَذَا وَكَذَا، فَتَكَلَّمْ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَى الْعِظَامِ، وَإِنَّ الْعَظْمَ لَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِ الْعَظْمِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ‏.‏ ثُمَّ تَكَلَّمَ بِمَا أُمِرَ، فَإِذَا الْعِظَامُ تُكْسَى لَحْمًا‏.‏ ثُمَّ أُمِرَ بِأَمْرٍ فَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِذَا هُمْ قُعُودٌ يُسَبِّحُونَ وَيُكَبِّرُونَ‏.‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِينَ أَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ قَالَ‏:‏ هُمْ قَوْمٌ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ عُقُوبَةً وَمَقْتًا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِآجَالِهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ “وَهُمْ أُلُوفٌ “ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “عَنَى بِالْأُلُوفِ كَثْرَةَ الْعَدَدِ “ دُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ “عَنَى بِهِ الِائْتِلَافَ“، بِمَعْنَى ائْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ كَانَ مِنْهُمْ وَلَا تَبَاغُضٍ، وَلَكِنْ فِرَارًا‏:‏ إِمَّا مِنَ الْجِهَادِ، وَإِمَّا مِنَ الطَّاعُونِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَلَا يُعَارُضُ بِالْقَوْلِ الشَّاذِّ مَا اسْتَفَاضَ بِهِ الْقَوْلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ- فِي مَبْلَغِ عَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ خُرُوجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ- بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ حَدَّ عَدَدَهُمْ بِزِيَادَةٍ عَنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، دُونَ مَنْ حَدَّهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَثَمَانِيَةِ آلَافٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أُلُوفًا، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ آلَافٍ لَا يُقَالُ لَهُمْ‏:‏ “أُلُوفٌ“‏.‏ وَإِنَّمَا يُقَالُ “هُمْ آلَافٌ“، إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَصَاعِدًا إِلَى الْعَشَرَةِ آلَافٍ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هُمْ خَمْسَةُ أُلُوفٍ، أَوْ عَشَرَةُ أُلُوفٍ‏.‏

وَإِنَّمَا جُمِعُ قَلِيلُهُ عَلَى “أَفْعَالٍ“، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى “أَفْعُلٍ “ مِثْلَ سَائِرِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ الَّذِي يَكُونُ ثَانِيَ مُفْرَدِهِ سَاكِنًا لِلْأَلِفِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ‏.‏ وَشَأْنُ الْعَرَبِ فِي كُلِّ حَرْفٍ كَانَ أَوَّلُهُ، يَاءً أَوْ وَاوًا أَوْ أَلِفًا، اخْتِيَارُ جَمْعِ قَلِيلِهِ عَلَى أَفْعَالٍ، كَمَا جَمَعُوا “الْوَقْتَ “ “أَوْقَاتًا “ و “الْيَوْمَ “ “أَيَّامًا“، و “الْيُسْرَ “و “أَيْسَارًا“، لِلْوَاوِ وَالْيَاءِ اللَّتَيْنِ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ‏.‏ وَقَدْ يُجْمَعُ ذَلِكَ أَحْيَانًا عَلَى “أَفْعُلٍ“، إِلَّا أَنَّ الْفَصِيحَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

كَـانُوا ثَلَاثَـةَ آلُـفٍ وَكَتِيبَـةً *** أَلْفَيْـنِ أَعْجَـمَ مِـنْ بَنِـي الْفَـدَّامِ

وَأَمَّا قَوْلُُهُ‏:‏ “حَذَرَ الْمَوْتِ“، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ حَذَرِ الْمَوْتِ، فِرَارًا مِنْهُ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ “حَذَرَ الْمَوْتِ“، فِرَارًا مِنْ عَدُوِّهِمْ، حَتَّى ذَاقُوا الْمَوْتَ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ‏.‏ فَأَمَرَهُمْ فَرَجَعُوا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ‏:‏ ‏{‏ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 246‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا حَثَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى قِتَالِ أَعْدَاءِ دِينِهِ‏.‏ وَشَجَّعَهُمْ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ وَتَذْكِيرِهِ لَهُمْ، أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِيَدَيْهِ وَإِلَيْهِ، دُونَ خَلْقِهِ وَأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقِتَالِ وَالْهَرَبَ مِنَ الْجِهَادِ وَلِقَاءِ الْأَعْدَاءِ، إِلَى التَّحَصُّنِ فِي الْحُصُونِ، وَالِاخْتِبَاءِ فِي الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، غَيْرُ مُنْجٍ أَحَدًا مِنْ قَضَائِهِ إِذَا حَلَّ بِسَاحَتِهِ، وَلَا دَافِعَ عَنْهُ أَسْبَابَ مَنِيَّتِهِ إِذَا نَـزَلَ بِعَقْوَتِهِ، كَمَا لَمْ يَنْفَعِ الْهَارِبِينَ مِنَ الطَّاعُونِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ‏}‏ فِرَارُهُمْ مِنْ أَوْطَانِهِمْ، وَانْتِقَالُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَّلُوا بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ السَّلَامَةَ، وَبِالْمَوْئِلِ النَّجَاةَ مِنَ الْمَنِيَّةِ، حَتَّى أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، فَتَرَكَهُمْ جَمِيعًا خُمُودًا صَرْعَى، وَفِي الْأَرْضِ هَلْكَى، وَنَجَا مِمَّا حَلَّ بِهِمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا كَرْبَ الْوَبَاءِ، وَخَالَطُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَظِيمَ الْبَلَاءِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏243‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ وَمَنٍّ‏.‏ عَلَى خَلْقِهِ، بِتَبْصِيرِهِ إِيَّاهُمْ سَبِيلَ الْهُدَى، وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ طُرُقَ الرَّدَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يُنْعِمُهَا عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ- كَمَا أَحْيَا الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ بَعْدَ إِمَاتَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَجَعْلِهِمْ لِخَلْقِهِ مَثَلًا وَعِظَةٍ يَتَّعِظُونَ بِهِمْ، عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِهِ، فَيَسْتَسْلِمُوا لِقَضَائِهِ، وَيَصْرِفُوا الرَّغْبَةَ كُلَّهَا وَالرَّهْبَةَ إِلَيْهِ‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُنْعِمُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ بِنِعَمِهِ الْجَلِيلَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ بِمِنَنِهِ الْجَسِيمَةِ، يَكْفُرُ بِهِ وَيَصْرِفُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَتَّخِذُ إِلَهًا مِنْ دُونِهِ، كُفْرَانًا مِنْهُ لِنِعَمِهِ الَّتِي تُوجِبُ أَصْغَرُهَا عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ مَا يَفْدَحُهُ، وَمِنَ الْحَمْدِ مَا يُثْقِلُهُ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يَشْكُرُونَ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُهَا عَلَيْهِمْ، وَفَضْلِي الَّذِي تَفَضَّلْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، بِعِبَادَتِهِمْ غَيْرِي، وَصَرْفِهِمْ رَغْبَتَهُمْ وَرَهْبَتَهُمْ إِلَى مَنْ دُونِي مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏244‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏244‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ “وَقَاتَلُوا“، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ “فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، يَعْنِي‏:‏ فِي دِينِهِ الَّذِي هَدَاكُمْ لَهُ، لَا فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، أَعْدَاءَ دِينِكُمْ، الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ رَبِّكُمْ، وَلَا تَحْتَمُوا عَنْ قِتَالِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمْ، وَلَا تَجْبُنُوا عَنْ حَرْبِهِمْ، فَإِنَّ بِيَدِي حَيَاتُكُمْ وَمَوْتُكُمْ‏.‏ وَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ مِنْ لِقَائِهِمْ وَقِتَالِهِمْ حَذَرَ الْمَوْتِ وَخَوْفَ الْمَنِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ بِقِتَالِهِمْ، فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ إِلَى التَّعْرِيدِ عَنْهُمْ وَالْفِرَارِ مِنْهُمْ، فَتَذِلُّوا، وَيَأْتِيكُمُ الْمَوْتُ الَّذِي خِفْتُمُوهُ فِي مَأْمَنِكُمُ الَّذِي وَأَلْتُمْ إِلَيْهِ، كَمَا أَتَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكُمْ قِصَّتَهُمْ، فَلَمْ يُنْجِهِمْ فِرَارُهُمْ مِنْهُ مِنْ نُـزُولِهِ بِهِمْ حِينَ جَاءَهُمْ أَمْرِي، وَحَلَّ بِهِمْ قَضَائِي، وَلَا ضَرَّ الْمُتَخَلِّفِينَ وَرَاءَهُمْ مَا كَانُوا لَمْ يَحْذَرُوهُ، إِذْ دَافَعْتُ عَنْهُمْ مَنَايَاهُمْ، وَصَرَفْتُهَا عَنْ حَوْبَائِهِمْ، فَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِ مِنْ أَعْدَائِي وَأَعْدَاءِ دِينِي، فَإِنَّ مَنْ حَيِيَ مِنْكُمْ فَأَنَا أَحْيَيْتُهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَبِقَضَائِي كَانَ قَتْلُهُ‏.‏

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ‏:‏ وَاعْلَمُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَّ رَبَّكُمْ “سَمِيعٌ “ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ مُنَافِقِيكُمْ لِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فِي سَبِيلِي‏:‏ لَوْ أَطَاعُونَا فَجَلَسُوا فِي مَنَازِلِهِمْ مَا قُتِلُوا “عَلِيمٌ “ بِمَا تُجِنُّهُ صُدُورُهُمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَقِلَّةِ الشُّكْرِ لِنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ، وَآلَائِي لَدَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأُمُورِ عِبَادِي‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ فَاشْكُرُونِي أَنْتُمْ بِطَاعَتِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فِي سَبِيلِي، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي، إِذْ كَفَرَ هَؤُلَاءِ نِعَمِي‏.‏ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِقَوْلِهِمْ، وَعَلِيمٌ بِهِمْ وَبِغَيْرِهِمْ وَبِمَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، حَتَّى أُجَازِيَ كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ بِالْقِتَالِ، بَعْدَ مَا أَحْيَاهُمْ‏.‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، لَا يَخْلُو- إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ- مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ‏:‏

إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ “فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا“، وَذَلِكَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُمِيتَهُمْ، وَيَأْمُرَهُمْ وَهُمْ مَوْتَى بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِهِ‏.‏

أَوْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ “ثُمَّ أَحْيَاهُمْ“، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ‏.‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ “وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِالْقِتَالِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ “ثُمَّ أَحْيَاهُمْ“، خَبَرٌ عَنْ فِعْلٍ قَدْ مَضَى‏.‏ وَغَيْرُ فَصِيحٍ الْعَطْفُ بِخَبَرٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى خَبَرٍ مَاضٍ، لَوْ كَانَا جَمِيعًا خَبَرَيْنِ، لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏ فَكَيْفَ عُطِفَ الْأَمْرُ عَلَى خَبَرٍ مَاضٍ‏؟‏

أَوْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَسْقَطَ “الْقَوْلَ“، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ السَّجْدَةِ‏:‏ 12‏]‏، بِمَعْنَى يَقُولُونَ‏:‏ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا‏.‏ وَذَلِكَ أَيْضًا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَدُلُّ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَلَى حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَيَفْهَمُ السَّامِعُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ‏.‏ فَأَمَّا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ عَلَى حَاجَةِ الْكَلَامِ إِلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى مُدَّعٍ أَنَّهُ مُرَادٌ فِيهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ مَنْ هَذَا الَّذِي يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُعِينُ مُضْعِفًا، أَوْ يُقَوِّي ذَا فَاقَةٍ أَرَادَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطِي مِنْهُمْ مُقَتِّرًا‏؟‏ وَذَلِكَ هُوَ الْقَرْضُ الْحَسَنُ الَّذِي يُقْرِضُ الْعَبْدُ رَبَّهُ‏.‏

وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ “قَرْضًا“، لِأَنَّ مَعْنَى “الْقَرْضِ “ إِعْطَاءُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ مَالَهُ مُمَلِّكًا لَهُ، لِيَقْضِيَهُ مِثْلَهُ إِذَا اقْتَضَاهُ‏.‏ فَلَمَّا كَانَ إِعْطَاءُ مَنْ أَعْطَى أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّمَا يُعْطِيهِمْ مَا يُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمَّاهُ “قَرْضًا“، إِذْ كَانَ مَعْنَى “الْقَرْضِ “ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا وَصَفْنَا‏.‏

وَإِنَّمَا جَعَلَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ “حَسَنًا“، لِأَنَّ الْمُعْطِيَ يُعْطِي ذَلِكَ عَنْ نَدْبِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَحَثِّهِ لَهُ عَلَيْهِ، احْتِسَابًا مِنْهُ‏.‏ فَهُوَ لِلَّهِ طَاعَةٌ، وَلِلشَّيَاطِينِ مَعْصِيَةٌ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ بِاللَّهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ‏:‏ “عِنْدِي لَكَ قَرْضُ صِدْقٍ، وَقَرْضُ سُوءٍ“، لِلْأَمْرِ يَأْتِي فِيهِ لِلرَّجُلِ مَسَرَّتَهُ أَوْ مَسَاءَتَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كُـلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَنًا *** أَوْ سَـيِّئًا، وَمَدِينـا بِـالَّذِي دَانَـا

فَقَرْضُ الْمَرْءِ‏:‏ مَا سَلَفَ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ أَوْ سَيِّئِهِ‏.‏ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَةُ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 261‏]‏‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ “فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً“، قَالَ‏:‏ بِالْوَاحِدِ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏، ‏(‏جَاءَ ابْنُ الدَّحْدَاحِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُنَا‏؟‏ إِنَّمَا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا‏!‏ وَإِنَّ لِي أَرْضَيْنِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا بِالْعَالِيَةِ، وَالْأُخْرَى بِالسَّافِلَةِ، وَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً‏!‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ “كَمْ مِنْ عَذْقٍ مُذَلَّلٍ لِابْنِ الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ‏!‏‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ‏:‏ “أَنَا أُقْرِضُ اللَّهَ“، فَعَمَدَ إِلَى خَيْرِ حَائِطٍ لَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَ قَتَادَةُ‏:‏ يَسْتَقْرِضُكُمْ رَبُّكُمْ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ وَيَسْتَقْرِضُ عِبَادَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْأَنْمَاطِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ‏!‏ قَالَ‏:‏ يَدَكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ‏:‏ فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطَي، حَائِطًا فِيهِ سِتُّمِائِةِ نَخْلَةٍ‏.‏ ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَوَأُمُّ الدَّحْدَاحِفِيهِ فِي عِيَالِهَا، فَنَادَاهَا‏:‏ يَاأُمَّ الدَّحْدَاحِ ‏!‏ قَالَتْ‏:‏ لَبَّيْكَ‏!‏ قَالَ‏:‏ اخْرُجِي‏!‏ قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطًا فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏، فَإِنَّهُ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُقْرِضَهُ وَمُنْفِقَ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ إِضْعَافِ الْجَزَاءِ لَهُ عَلَى قَرْضِهِ وَنَفَقَتِهِ، مَا لَا حَدَّ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا التَّضْعِيفُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا هُوَ‏.‏

وَقَدْ‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَاحِبٍ لَهُ يَذْكُرُ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ الدُّنْيَا قَرْضًا، وَسَأَلَكُمُوهَا قَرْضًا، فَإِنْ أَعْطَيْتُمُوهَا طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ، ضَاعَفَ لَكُمْ مَا بَيْنَ الْحَسَنَةِ إِلَى الْعَشْرِ إِلَى السَّبْعِمِائِةِ، إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ، فَصَبَرْتُمْ وَأَحْسَنْتُمْ، كَانَتْ لَكُمُ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَأَوْجَبَ لَكُمُ الْهُدَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَيُضَاعِفَهُ‏)‏ بِالْأَلِفِ وَرَفْعِهِ، بِمَعْنَى‏:‏ الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفُهُ لَهُ، نَسَقَ “يُضَاعِفُ “ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ “يُقْرِضُ“‏.‏

وَقَرَأَهُ آخَرُونَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى‏:‏ ‏(‏فَيُضَعِّفُهُ‏)‏، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِتَشْدِيدِ “الْعَيْنِ “ وَإِسْقَاطِ “الْأَلِفِ“‏.‏

وَقَرَأَهُ آخَرُونَ‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ بِإِثْبَاتِ “الْأَلِفِ “ فِي “يُضَاعِفُ “ وَنَصْبِهِ، بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ‏.‏ فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الْكَلَامَ‏:‏ مَنِ الْمُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏؟‏ فَجَعَلُوا قَوْلَهُ‏:‏ “فَيُضَاعِفَهُ “ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَجَعَلُوا‏:‏ “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا “ اسْمًا‏.‏ لِأَنَّ “الَّذِي “ وَصِلَتَهُ، بِمَنْـزِلَةِ “عَمْرٍو “ و “زَيْدٍ“‏.‏ فَكَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “مَنْ أَخُوكَ فَتُكْرِمَهُ“، لِأَنَّ الْأَفْصَحَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْفَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مَا يُعْطَفُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ، نَصْبُهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفُهُ لَهُ‏}‏ بِإِثْبَاتِ “الْأَلِفِ“‏.‏ وَرَفْعِ “يُضَاعِفُ“‏.‏ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا “ مَعْنَى الْجَزَاءِ‏.‏ وَالْجَزَاءُ إِذَا دَخَلَ فِي جَوَابِهِ “الْفَاءُ“، لَمْ يَكُنْ جَوَابُهُ بـ “الْفَاءِ “ إِلَّا رَفْعًا‏.‏ فَلِذَلِكَ كَانَ الرَّفْعُ فِي “يُضَاعِفُهُ “ أَوْلَى بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا مِنَ النَّصْبِ‏.‏ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا “الْأَلِفَ “ فِي “يُضَاعِفُ “ مِنْ حَذْفِهَا وَتَشْدِيدِ “الْعَيْنِ“، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ وَأَكْثَرُهُمَا عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ قَبْضُ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَبَسْطِهَا، دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنِ ادَّعَى أَهْلُ الشِّرْكِ بِهِ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَاتَّخَذُوهُ رَبًّا دُونَهُ يَعْبُدُونَهُ‏.‏ وَذَلِكَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَأَبُو رَبِيعَةَ قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ وَقَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ فَأَسْعِرْ لَنَا‏!‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ الْبَاسِطُ الْقَابِضُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ لَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي نَفْسٍ وَمَال‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرِّخَصَ وَالسَّعَةَ وَالضِّيقَ بِيَدِ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏، ‏{‏وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏، يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “يَقْبِضُ“، يُقَتِّرُ بِقَبْضِهِ الرِّزْقَ عَمَّنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ و “يَبْسُطُ “ يُوَسِّعُ بِبَسْطَةِ الرِّزْقِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ‏.‏

وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقِيلِهِ ذَلِكَ، حَثَّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ- الَّذِينَ قَدْ بَسَطَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ- عَلَى تَقْوِيَةِ ذَوِي الْإِقْتَارِ مِنْهُمْ بِمَالِهِ، وَمَعُونَتِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَحُمُولَتِهِ عَلَى النُّهُوضِ لِقِتَالِ عَدُوِّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ مَنْ يُقَدِّمُ لِنَفْسِهِ ذُخْرًا عِنْدِي بِإِعْطَائِهِ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فِي سَبِيلِي، فَأُضَاعِفُ لَهُ مِنْ ثَوَابِي أَضْعَافًا كَثِيرَةً مِمَّا أَعْطَاهُ وَقَوَّاهُ بِهِ‏؟‏ فَإِنِّي-أَيُّهَا الْمُوسِعُ- الَّذِي قَبَضْتُ الرِّزْقَ عَمَّنْ نَدَبْتُكَ إِلَى مَعُونَتِهِ وَإِعْطَائِهِ، لِأَبْتَلِيَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ بِهِ وَالَّذِي بَسَطْتُ عَلَيْكَ لِأَمْتَحِنَكَ بِعَمَلِكَ فِيمَا بَسَطْتُ عَلَيْكَ، فَأَنْظُرُ كَيْفَ طَاعَتُكَ إِيَّايَ فِيهِ، فَأُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى قَدْرِ طَاعَتِكُمَا لِي فِيمَا ابْتَلَيْتُكُمَا فِيهِ وَامْتَحَنْتُكُمَا بِهِ، مِنْ غِنَى وَفَاقَةٍ، وَسَعَةٍ وَضِيقٍ، عِنْدَ رُجُوعِكُمَا إِلَيَّ فِي آخِرَتِكُمَا، وَمَصِيرِكُمَا إِلَيَّ فِي مَعَادِكُمَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ عَلِمَ أَنَّ فِيمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ مَنْ لَا يَجِدُ قُوَّةً، وَفِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ مَنْ يَجِدُ غَنًى، فَنَدَبَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَسَطَ عَلَيْكَ وَأَنْتَ ثَقِيلٌ عَنِ الْخُرُوجِ لَا تُرِيدُهُ، وَقَبَضَ عَنْ هَذَا وَهُوَ يَطِيبُ نَفْسًا بِالْخُرُوجِ وَيَخِفُّ لَهُ، فَقَوِّهِ مِمَّا فِي يَدِكَ، يَكُنْ لَكَ فِي ذَلِكَ حَظٌّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏245‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَإِلَى اللَّهِ مَعَادُكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوا فَرَائِضَهُ وَتَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَأَنْ يَعْمَلَ مَنْ بُسِطَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ مِنْ رِزْقِهِ بِغَيْرِ مَا أَذِنَ لَهُ بِالْعَمَلِ فِيهِ رَبُّهُ، وَأَنْ يَحْمِلَ الْمُقْتِرَ مِنْكُمْ- إِذْ قُبِضَ عَنْهُ رِزْقُهُ- إِقْتَارُهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالتَّقَدُّمِ عَلَى مَا نَهَاهُ، فَيَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ عِنْدَ مَصِيرِهِ إِلَى خَالِقِهِ، مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنَ أَلِيمِ عِقَابِهِ‏.‏

وَكَانَ قَتَادَةُ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ‏:‏ “وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ“، وَإِلَى التُّرَابِ تُرْجَعُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏، مِنَ التُّرَابِ خَلَقَهُمْ، وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “أَلَمْ تَرَ“، أَلَمْ تَرَ، يَا مُحَمَّدُ، بِقَلْبِكَ، فَتَعْلَمَ بِخَبَرِي إِيَّاكَ، يَا مُحَمَّدُ “إِلَى الْمَلَأِ“، يَعْنِي‏:‏ إِلَى وُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَشْرَافِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ “مِنْ بَعْدِ مُوسَى“، يَقُولُ‏:‏ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِضَ مُوسَى فَمَاتَ “إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ“‏.‏ فَذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ شمويل بْنُ بَالَى بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ يَرْحَامَ بْنِ إِلِيهُو بْنِ تهو بْنِ صُوف بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ ماحِثَ بْنِ عموصا بْنِ عزريا بْنِ صفنيةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي يَاسِفَ بْنِ قَارُونَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏.‏

وَحَدَّثَنِي أَيْضًا الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ‏:‏ هُوَ شمويل، هُوَ شمويل- وَلَمْ يَنْسُبْهُ كَمَا نَسَبَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ‏.‏

وَقَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ بَلِ اسْمُهُ شَمْعُونَ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ “شَمْعُونُ“، لِأَنَّ أُمَّهُ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهَا دُعَاءَهَا، فَرَزَقَهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ “ شَمْعُونَ“، تَقُولُ‏:‏ اللَّهُ تَعَالَى سَمِعَ دُعَائِي‏.‏

حَدَّثَنِي ‏[‏بِذَلِكَ‏]‏ مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏.‏

فَكَأَنَّ “شَمْعُونَ “ “فَعْلُوْنَ “ عِنْدَ السُّدِّيِّ، مِنْ قَوْلِهَا‏:‏ إِنَّهُ سَمِعَ اللَّهُ دُعَاءَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ‏}‏، قَالَ‏:‏ شمؤل‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلِ الَّذِي سَأَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ نَبِيُّهُمِ الَّذِي بَعْدَ مُوسَى يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، قَالَ‏:‏ وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَ‏.‏

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سَأَلَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيَّهُمْ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ، مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ‏:‏ خَلَفَ بَعْدَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ وَأَمْرَ اللَّهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ‏.‏ ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمْ كَالِبُ بْنُ يُوفِنَّا يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ وَأَمْرَ اللَّهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏ ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمْ حِزْقِيلُ بْنُ بِوَزْي، وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ حِزْقِيلَ، وَعَظُمَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْأَحْدَاثُ، وَنَسُوا مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى نَصَبُوا الْأَوْثَانَ وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏.‏ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ بْنَ نُسَيِّ بْنِ فَنُحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ نَبِيًّا‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، يُبْعَثُونَ إِلَيْهِمْ بِتَجْدِيدِ مَا نَسُوا مِنَ التَّوْرَاةِ‏.‏ وَكَانَ إِلْيَاسُ مَعَ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ أَحَابُ، وَكَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ وَيُصَدِّقُهُ‏.‏ فَكَانَ إِلْيَاسُ يُقِيمُ لَهُ أَمْرَهُ‏.‏ وَكَانَ سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدِ اتَّخَذُوا صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَجَعَلَ إِلْيَاسُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَجَعَلُوا لَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكِ‏.‏ وَالْمُلُوكُ مُتَفَرِّقَةٌ بِالشَّامِ، كُلُّ مَلِكٍ لَهُ نَاحِيَةٌ مِنْهَا يَأْكُلُهَا‏.‏ فَقَالَ ذَلِكَ الْمَلِكُ الَّذِي كَانَ إِلْيَاسُ مَعَهُ يُقَوِّمُ لَهُ أَمْرَهُ، وَيَرَاهُ عَلَى هُدًى مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ يَوْمًا‏:‏ يَا إِلْيَاسُ، وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا بَاطِلًا‏!‏ وَاللَّهِ مَا أَرَى فُلَانًا وَفُلَانًا- وَعَدَّدَ مُلُوكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- قَدْ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِلَّا عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ مُمَلَّكِينَ، مَا يَنْقُصُ مِنْ دُنْيَاهُمْ ‏[‏أَمْرُهُمُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ‏]‏‏؟‏ وَمَا نَرَى لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلٍ‏.‏ وَيَزْعُمُونَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ إِلْيَاسَ اسْتَرْجَعَ وَقَامَ شَعْرُ رَأْسِهِ وَجِلْدِهِ، ثُمَّ رَفَضَهُ وَخَرَجَ عَنْهُ‏.‏ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْمَلِكُ فِعْلَ أَصْحَابِهِ، عَبَدَ الْأَوْثَانَ، وَصَنَعَ مَا يَصْنَعُونَ‏.‏ ثُمَّ خَلَّفَ مِنْ بَعْدِهِ فِيهِمْ الْيَسَعَ، فَكَانَ فِيهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏.‏ وَخَلَفَتْ فِيهِمُ الْخُلُوفُ، وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْخَطَايَا، وَعِنْدَهُمُ التَّابُوتُ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فِيهِ السَّكِينَةُ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ‏.‏ فَكَانُوا لَا يَلْقَاهُمْ عَدُوٌّ فَيُقَدِّمُونَ التَّابُوتَ وَيَزْحَفُونَ بِهِ مَعَهُمْ، إِلَّا هَزَمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَدُوَّ‏.‏ ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمْ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ إِيلَاءُ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَارَكَ لَهُمْ فِي جَبَلِهِمْ مِنْ إِيلِيَا، لَا يَدْخُلُهُ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ، وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَكَانَ أَحَدُهُمْ-فِيمَا يَذْكُرُونَ- يَجْمَعُ التُّرَابَ عَلَى الصَّخْرَةِ، ثُمَّ يَنْبِذُ فِيهِ الْحَبَّ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ لَهُ مَا يَأْكُلُ سَنَتَهُ هُوَ وَعِيَالُهُ‏.‏ وَيَكُونُ لِأَحَدِهِمُ الزَّيْتُونَةَ، فَيَعْتَصِرُ مِنْهَا مَا يَأْكُلُ هُوَ وَعِيَالُهُ سَنَتَهُ‏.‏ فَلَمَّا عَظُمَتْ أَحْدَاثُهُمْ، وَتَرَكُوا عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، نَـزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، وَأَخْرَجُوا مَعَهُمُ التَّابُوتَ كَمَا كَانُوا يُخْرِجُونَهُ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهِ، فَقُوتِلُوا حَتَّى اسْتُلِبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏.‏ فَأُتِي مَلِكُهُمْ إِيلَاءَ فَأُخْبِرَ أَنَّ التَّابُوتَ قَدْ أُخِذَ وَاسْتُلِبَ، فَمَالَتْ عُنُقُهُ، فَمَاتَ كَمَدًا عَلَيْهِ‏.‏ فَمَرَجَ أَمْرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَوَطِئَهُمْ عَدُوُّهُمْ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ‏.‏ وَفِيهِمْ نَبِيٌّ لَهُمْ قَدْ كَانَ اللَّهُ بَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، يُقَالُ لَهُ “ شمويل“، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ‏:‏ “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ “ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا“، يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ “فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ“، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ“‏.‏

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ فَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ فِيمَا حَدَّثَنِي بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ أَنَّهُ لَمَّا نَـزَلَ بِهِمُ الْبَلَاءُ وَوُطِئَتْ بِلَادُهُمْ، كَلَّمُوا نَبِيَّهُمْ شمويل بْنَ بَالِي فَقَالُوا‏:‏ “ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ“‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَ قِوَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْمُلُوكِ، وَطَاعَةَ الْمُلُوكِ أَنْبِيَاءَهُمْ‏.‏ وَكَانَ الْمَلِكُ هُوَ يَسِيرُ بِالْجُمُوعِ، وَالنَّبِيُّ يُقَوِّمُ لَهُ أَمْرَهُ وَيَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ مِنْ رَبِّهِ‏.‏ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ صَلُحَ أَمْرُهُمْ، فَإِذَا عَتَتْ مُلُوكُهُمْ وَتَرَكُوا أَمْرَ أَنْبِيَائِهِمْ فَسَدَ أَمْرُهُمْ‏.‏ فَكَانَتِ الْمُلُوكُ إِذَا تَابَعَتْهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى الضَّلَالَةِ تَرَكُوا أَمْرَ الرُّسُلِ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ فَلَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ‏.‏ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ بِهِمْ حَتَّى قَالُوا لَهُ‏:‏ ‏{‏ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَكُمْ وَفَاءٌ وَلَا صِدْقٌ وَلَا رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ‏.‏ فَقَالُوا‏:‏ إِنَّمَا كُنَّا نَهَابُ الْجِهَادَ وَنَـزْهَدُ فِيهِ، أَنَّا كُنَّا مَمْنُوعِينَ فِي بِلَادِنَا لَا يَطَؤُهَا أَحَدٌ، فَلَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا فِيهَا عَدُوٌّ، فَأَمَّا إِذْ بَلَغَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْجِهَادِ، فَنُطِيعُ رَبَّنَا فِي جِهَادِ عَدُوِّنَا، وَنَمْنَعُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَذَرَارِينَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ إِلَى‏:‏ “وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ“، قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ ذُكِرَ لَنَا-وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ مُوسَى لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، اسْتَخْلَفَ فَتَاهَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ سَارَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُوسَى‏.‏ ثُمَّ إِنَّ يُوَشَعَ بْنَ نُونٍ تُوفِّيَ، وَاسْتَخْلَفَ فِيهِمْ آخَرَ، فَسَارَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ آخَرَ فَسَارَ فِيهِمْ بِسِيرَةِ صَاحِبَيْهِ‏.‏ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ آخَرَ فَعَرَفُوا وَأَنْكَرُوا‏.‏ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ آخَرَ، فَأَنْكَرُوا عَامَّةَ أَمْرِهِ‏.‏ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ آخَرَ فَأَنْكَرُوا أَمْرَهُ كُلَّهُ‏.‏ ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَوْا نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ حِينَ أُوذُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ‏:‏ سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ‏:‏ ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا‏}‏، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ هَذَا حِينَ رُفِعَتِ التَّوْرَاةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَتِ الْجَبَابِرَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا حِينَ رُفِعَتِ التَّوْرَاةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ نَبِيَّهُمْ ذَلِكَ، مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُقَاتِلُونَ الْعَمَالِقَةَ، وَكَانَ مَلِكُ الْعَمَالِقَةِ جَالُوتَ، وَأَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ‏.‏ وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ‏.‏ وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى، فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ، رَهْبَةً أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فَتُبَدِّلَهَا بِغُلَامٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا‏.‏ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ شَمْعُونَ‏.‏ فَكَبِرَ الْغُلَامُ، فَأَرْسَلَتْهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ‏.‏ فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَالْغُلَامُ نَائِمٌ إِلَى جَنْبِ الشَّيْخِ وَكَانَ لَا يَتَّمِنُ عَلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ‏:‏ “يَا شَمَاوِلَ‏!‏“، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَتَاهُ، دَعَوْتَنِي‏؟‏ فَكَرِهَ الشَّيْخُ أَنْ يَقُولَ‏:‏ “لَا “ فَيَفْزَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّ ارْجِعْ فَنَمْ‏!‏ فَرَجَعَ فَنَامَ‏.‏ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ، فَأَتَاهُ الْغُلَامُ أَيْضًا فَقَالَ‏:‏ دَعَوْتَنِي‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلَا تُجِبْنِي‏!‏ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ، ظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ‏:‏ اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا‏.‏ فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا‏:‏ اسْتَعْجَلْتَ بِالنُّبُوَّةِ وَلَمْ تَئْنِ لَكَ‏!‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ شَمْعُونُ‏:‏ عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ لَا تُقَاتِلُوا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ “ إِذَا قُرِئَ “بِالنُّونِ “ غَيْرَ الْجَزْمِ، عَلَى مَعْنَى الْمُجَازَاةِ وَشَرْطِ الْأَمْرِ‏.‏ فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرَّفْعَ فِيهِ جَائِزٌ وَقَدْ قُرِئَ بِالنُّونِ، بِمَعْنَى‏:‏ الَّذِي نُقَاتِلُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ حَرْفَيْنِ‏.‏ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ قُرِئَ ذَلِكَ “بِالْيَاءِ “ لَجَازَ رَفْعُهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَوْ قُرِئَ كَذَلِكَ صِلَةً لـ“الْمَلِكِ“، فَيَصِيرُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ‏:‏ ابْعَثْ لَنَا الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 129‏]‏، لِأَنَّ قَوْلَهُ “يَتْلُو“ مِنْ صِلَةِ الرَّسُولِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏246‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ قَالَ النَّبِيُّ الَّذِي سَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ “هَلْ عَسَيْتُمْ“، هَلْ، تَعِدُونَ “إِنْ كُتِبَ“، يَعْنِي‏:‏ إِنْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ “أَلَّا تُقَاتِلُوا“، يَعْنِي‏:‏ أَنْ لَا تَفُوا بِمَا تَعِدُونَ اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ نَكْثٍ وَغَدْرٍ وَقِلَّةِ وَفَاءٍ بِمَا تَعِدُونَ‏؟‏ “قَالُوا‏:‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، يَعْنِي‏:‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ ذَلِكَ‏:‏ وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُنَا أَنْ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَدُوَّنَا وَعَدُوَّ اللَّهِ “وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا“، بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ‏؟‏

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا وَجْهُ دُخُولِ “أَنْ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ “وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ“، وَحَذْفِهُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ‏}‏‏؟‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَدِيدِ‏:‏ 8‏]‏

قِيلَ‏:‏ هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ لِلْعَرَبِ‏:‏ تُحْذَفُ “أَنْ “ مَرَّةً مَعَ قَوْلِهَا‏:‏ “مَا لَكَ“، فَتَقُولُ‏:‏ “مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ كَذَا“، بِمَعْنَى‏:‏ مَا لَكَ غَيْرُ فَاعِلِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

مَا لَكِ تَرْغِينَ *** وَلَا تَرْغُو الْخَلِفْ

وَذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا حَاجَةَ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّتِهِ، لِفُشُوِّ ذَلِكَ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ‏.‏

وَتَثْبُتُ “ أَنَّ “ فِيهِ أُخْرَى، تَوْجِيهًا لِقَوْلِهَا‏:‏ “مَا لَكَ “ إِلَى مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ‏:‏ مَا مَنَعَكَ‏؟‏ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 12‏]‏ ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى فِي نَظِيرِهِ‏:‏ ‏{‏مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحِجْرِ‏:‏ 32‏]‏، فَوَضَعَ “ مَا مَنَعَكَ “ مَوْضِعِ “ مَا لَكَ “ وَ“ مَا لَكَ “ مَوْضِعَ “ مَا مَنَعَكَ “ لِاتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمَا، كَمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ مِمَّا تَتَّفِقُ مَعَانِيهِ وَتَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

يَقُـولُ إِذَا اقْلَـوْلَى عَلْيْهَـا وَأَقْـرَدَتْ‏:‏ *** أَلَا هَـلْ أَخُـو عَيْشٍ لَذِيـذٍ بِـدَائِمٍ‏؟‏

فَأَدْخَلَ فِي “ دَائِمٍ “ “ الْبَاءَ “ مَعَ “ هَلْ“، وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ‏.‏ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ “ مَا “ الَّتِي فِي مَعْنَى الْجَحْدِ، لِتَقَارُبِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْجَحْدِ‏.‏

وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ‏:‏ أُدْخِلَتْ “ أَنْ “ فِي‏:‏ “أَلَّا تُقَاتِلُوا “ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ مَا لَكَ فِي أَلَّا تُقَاتِلَ‏.‏ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ “مَا لَكَ أَنْ قُمْتَ وَمَا لَكَ أَنَّكَ قَائِمٌ “ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ‏.‏ لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الأَفْعَالِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “مَنَعْتُكَ أَنْ تَقُومَ “ وَلَا يُقَالُ‏:‏ “مَنَعْتُكَ أَنْ قُمْتَ“، فَلِذَلِكَ قِيلَ فِي “ مَالَكَ“‏:‏ “مَالَكَ أَلَّا تَقُومَ “ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ “مَا لَكَ أَنْ قُمْتَ“‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ‏:‏ “أَنْ “ هَاهُنَا زَائِدَةٌ بَعْدَ “ مَا لَنَا“، كَمَا تُزَادُ بَعْدَ “ لَمَّا “ وَ“ لَوْ“، وَهِيَ تُزَادُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَمَعْنَاهُ‏:‏ وَمَا لَنَا لَا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏؟‏ فَأُعْمِلَ “ أَنْ “ وَهِيَ زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ‏:‏

لَـوْ لَـمْ تَكُـنْ غَطَفَـانُ لَا ذُنُوبَ لَهَا *** إِذَنْ لَـلَامَ ذَوُو أَحْسَـابِهَا عُمَـرَا

وَالْمَعْنَى‏:‏ لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفَانُ لَهَا ذُنُوبٌ “ وَلَا “ زَائِدَةٌ فَأَعْمَلَهَا‏.‏

وَأَنْكَرَ مَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَا عَنْهُ، آخَرُونَ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُجْعَلَ “ أَنْ “ زَائِدَةً فِي الْكَلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى وَبِالْكَلَامِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ قَالُوا‏:‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ مَا يَمْنَعُنَا أَلَّا نُقَاتِلَ- فَلَا وَجْهَ لِدَعْوَى مُدَّعٍ أَنَّ “ أَنْ “ زَائِدَةٌ، مَعْنَى مَفْهُومٌ صَحِيحٌ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏

لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفَانُ لَا ذُنُوبَ لَهَا ***

فَإِنَّ “ لَا “ غَيْرُ زَائِدَةٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ جَحْدٌ، وَالْجَحْدُ إِذَا جُحِدَ صَارَ إِثْبَاتًا‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ “لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفَانُ لَا ذُنُوبَ لَهَا“، إِثْبَاتُ الذُّنُوبِ لَهَا، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “مَا أَخُوكَ لَيْسَ يَقُومُ“، بِمَعْنَى‏:‏ هُوَ يَقُومُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ “مَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ“‏:‏ مَا لَنَا وَلِأَنْ لَا نُقَاتِلَ، ثُمَّ حُذِفَتِ “ الْوَاوُ “ فَتُرِكَتْ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ‏:‏ “مَا لَكَ وَلِأَنْ تَذْهَبَ إِلَى فُلَانٍ“، فَأُلْقِيَ مِنْهَا “ الْوَاوُ“، لِأَنَّ “ أَنْ “ حَرْفٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي الْأَسْمَاءِ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ نُجِيزُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ “مَا لَكَ أَنْ تَقُومَ“، وَلَا نُجِيزُ‏:‏ “مَا لَكَ الْقِيَامُ“، لِأَنَّ الْقِيَامَ اسْمٌ صَحِيحٌ وَ“ أَنْ “ اسْمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ قَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ “إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ“، بِمَعْنَى‏:‏ إِيَّاكَ وَأَنْ تَتَكَلَّمَ‏.‏

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ آخَرُونَ وَقَالُوا‏:‏ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَائِلُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا‏:‏ “ضَرَبْتُكَ بِالْجَارِيَةِ وَأَنْتِ كَفِيلٌ“، بِمَعْنَى‏:‏ وَأَنْتَ كَفِيلٌ بِالْجَارِيَةِ وَأَنْ تَقُولَ‏:‏ “رَأَيْتُكَ إِيَّانَا وَتُرِيدُ “بِمَعْنَى‏:‏ “رَأَيْتُكَ وَإِيَّانَا تُرِيدُ“‏.‏ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ “إِيَّاكَ بِالْبَاطِلِ تَنْطِقُ“، قَالُوا‏:‏ فَلَوْ كَانَتْ “ الْوَاوُ “ مُضْمَرَةً فِي “ أَنْ“، لَجَازَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ “ الْوَاوِ “ مِنَ الأَفَاعِيلِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَقَعَ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ “ الْوَاوَ “ مُضْمَرَةٌ مَعَ “ أَنْ “ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

فَبُـحْ بِالسَّـرَائِرِ فِـي أَهْلِهَـا *** إِيَّـاكَ فِـي غَـيْرِهِمْ أَنْ تَبُوحَـا

وَأَنَّ “ أَنْ تَبُوحَا“، لَوْ كَانَ فِيهَا “ وَاوٌ “ مُضْمَرَةٌ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ “ فِي غَيْرِهِمْ “ عَلَيْهَا‏.‏

وَأُمًّاتَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَقَدْ أُخْرِجَ مَنْ غُلِبَ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِنَا وَنِسَائِنَا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَمَنْ سُبِيَ‏.‏ وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَبَاطِنُهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ‏:‏ ‏{‏ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أُخْرِجَ مِنْ دَارِهِ وَوَلَدِهِ مَنْ أُسِرَ وَقُهِرَ مِنْهُمْ‏.‏

وَأُمًّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَلَمَّا فُرِضَ عَلَيْهِمْ قِتَالُ عَدُوِّهِمْ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ “ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ“، يَقُولُ‏:‏ أَدْبَرُوا مُوَلِّينَ عَنْ الْقِتَالِ، وَضَيَّعُوا مَا سَأَلُوهُ نَبِيَّهُمْ مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ‏.‏

وَالْقَلِيلُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ، هُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا النَّهْرَ مَعَ طَالُوتَ‏.‏ وَسَنَذْكُرُ سَبَبَ تَوَلِّي مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ، وَعُبُورِ مَنْ عَبَرَ مِنْهُمْ النَّهْرَ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهِ‏.‏

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ “وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ“، يَعْنِي‏:‏ وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ، فَأَخْلَفَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَخَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ فِيمَا سَأَلَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يُوجِبَهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَقْرِيعٌ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانِي مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي تَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ‏:‏ إِنَّكُمْ، يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَخَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيمَا سَأَلْتُمُوهُ أَنْ يَفْرِضَهُ عَلَيْكُمْ ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْتَدِئَكُمْ رَبُّكُمْ بِفَرْضِ مَا عَصَيْتُمُوهُ فِيهِ، فَأَنْتُمْ بِمَعْصِيَتِهِ- فِيمَا ابْتَدَأَكُمْ بِهِ مِنْ إِلْزَامِ فَرْضِهِ- أَحْرَى‏.‏

وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ قَدِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ عَمَّا تُرِكَ مِنْهُ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ‏{‏قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا‏}‏ فَسَأَلَ نَبِيُّهُمْ رَبَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَعَثَ لَهُمْ مَلِكًا، وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ “ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ“‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ وَقَالَ لِلْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَبَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏.‏ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ ذَلِكَ، قَالُوا‏:‏ أَنَّى يَكُونُ لِطَالُوتَ الْمُلْكَ عَلَيْنَا، وَهُوَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ وَسِبْطُ بِنْيَامِينَ سِبْطٌ لَا مَلِكَ فِيهِمْ وَلَا نُبُوَّةَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، لِأَنَّا مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ “ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ“، يَعْنِي‏:‏ وَلَمْ يُؤْتَ طَالُوتُ كَثِيرًا مِنَ المَالِ، لِأَنَّهُ سَقَّاءٌ وَقِيلَ‏:‏ كَانَ دَبَّاغًا‏.‏

وَكَانَ سَبَبُ تَمْلِيكِ اللَّهِ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَوْلِهِمْ مَا قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ شَمْوِيلَ‏:‏ “أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ“، مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لشَمْوِيلَ بْنِ بَالِي مَا قَالُوا لَهُ، سَأَلَ اللَّهَ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ انْظُرِ الْقَرْنَ الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فِي بَيْتِكَ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرْنِ، فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَادَّهِنْ رَأْسَهُ مِنْهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبِرْهُ بِالَّذِي جَاءَهُ- فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ مَتَى ذَلِكَ الرَّجُلُ دَاخِلًا عَلَيْهِ‏.‏ وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا دَبَّاغًا يَعْمَلُ الْأُدُمَ، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ‏.‏ وَكَانَ سِبْطُ بِنْيَامِينَ سِبْطًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نُبُوَّةٌ وَلَا مُلْكٌ‏.‏ فَخَرَجَ طَالُوتُ فِي طَلَبِ دَابَّةٍ لَهُ أَضَلَّتْهُ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ‏.‏ فَمَرَّا بِبَيْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ غُلَامُ طَالُوتَ لِطَالُوتَ‏:‏ لَوْ دَخَلْتَ بِنَا عَلَى هَذَا النَّبِيِّ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِ دَابَّتِنَا، فَيُرْشِدُنَا وَيَدْعُو لَنَا فِيهَا بِخَيْرٍ‏!‏ فَقَالَ طَالُوتُ‏.‏ مَا بِمَا قُلْتَ مِنْ بَأْسٍ‏!‏ فَدَخَلَا عَلَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَهُ يَذْكُرَانِ لَهُ شَأْنَ دَابَّتِهِمَا وَيَسْأَلَانِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمَا فِيهَا، إِذْ نَشَّ الدُّهْنُ الَّذِي فِي الْقَرْنِ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَهُ، ثُمَّ قَالَ لِطَالُوتَ‏:‏ قَرِّبْ رَأْسَكَ‏!‏ فَقَرَّبَهُ، فَدَهَنَهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَنْتَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أُمَلِّكَكَ عَلَيْهِمْ‏!‏ وَكَانَ اسْمُ “ طَالُوتَ “ بِالسُّرْيَانِيَّةِ‏:‏ شَاوِلَ بْنَ قَيْسِ بْنِ أَبْيَالَ بْنِ ضِرَارِ بْنِ يَحْرُبَ بْنِ أَفْيَحَ بْنِ آيِسَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، وَقَالَ النَّاسُ‏:‏ مَلَكَ طَالُوتُ‏!‏‏!‏ فَأَتَتْ عُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبِيَّهُمْ وَقَالُوا لَهُ‏:‏ مَا شَأْنُ طَالُوتَ يُمَلَّكُ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الْمَمْلَكَةُ‏؟‏ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ فِي آلِ لَاوِي وَآلِ يَهُوذَا ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ‏:‏ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لأشَمْوِيلَ‏:‏ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏!‏ قَالَ‏:‏ قَدْ كَفَاكُمُ اللَّهُ الْقِتَالَ‏!‏ قَالُوا‏:‏ إِنَّا نَتَخَوَّفُ مِنْ حَوْلِنَا، فَيَكُونُ لَنَا مَلِكٌ نَفْزَعُ إِلَيْهِ‏!‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أشَمْوِيلَ‏:‏ أَنِ ابْعَثْ لَهُمْ طَالُوتَ مَلِكًا، وَادَّهِنْهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ‏.‏ فَضَّلَتْ حُمُرٌ لِأَبِي طَالُوتَ فَأَرْسَلَهُ وَغُلَامًا لَهُ يَطْلُبَانِهَا، فَجَاءَا إِلَى أشَمْوِيلَ يَسْأَلَانِهِ عَنْهَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَكَ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّ سِبْطِي أَدْنَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏:‏ أَفَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَبِيلَتِي أَدْنَى قَبَائِلِ سِبْطِي‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ قَالَ‏:‏ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَيْتِي أَدْنَى بُيُوتِ قَبِيلَتِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ قَالَ‏:‏ فَبِأَيَّةِ آيَةٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِآيَةِ أَنَّكَ تَرْجِعُ وَقَدْ وَجَدَ أَبُوكَ حُمُرَهُ، وَإِذَا كُنْتَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا نَـزَلَ عَلَيْكَ الْوَحْيُ‏!‏ فَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ‏.‏ فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ لَمَّا كَذَّبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ شَمْعُونَ، وَقَالُوا لَهُ‏:‏ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ‏.‏ قَالَ لَهُمْ شَمْعُونُ‏:‏ عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا‏؟‏ “ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ “ الْآيَةَ‏.‏ دَعَا اللَّهَ، فَأُتِيَ بِعَصًا تَكُونُ مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا، فَقَاسُوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا‏.‏ وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَضَلَّ حِمَارُهُ، فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ فِي الطَّرِيقِ‏.‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ دَعَوْهُ فَقَاسُوهُ بِهَا، فَكَانَ مِثْلَهَا، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏}‏‏.‏ قَالَ الْقَوْمُ‏:‏ مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ‏!‏ وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ فَنَتْبَعُهُ لِذَلِكَ‏!‏ فَقَالَ النَّبِيُّ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ كَانَ طَالُوتُ سَقَّاءً يَبِيعُ الْمَاءَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ بَعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ مَلِكًا، وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، سِبْطٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَمْلَكَةٌ وَلَا نُبُوَّةٌ‏.‏ وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ‏:‏ سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وَسِبْطُ مَمْلَكَةٍ‏.‏ وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ سِبْطَ لَاوِي، إِلَيْهِ مُوسَى وَسِبْطُ الْمَمْلَكَةِ يَهُوذَا، إِلَيْهِ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ‏.‏ فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَالْمَمْلَكَةِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَجِبُوا مِنْهُ وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ‏}‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَلَيْسَ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا‏}‏، قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ مِنْ سَبَطٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلْكٌ وَلَا نُبُوَّةٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏}‏، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ‏:‏ سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وَسِبْطُ خِلَافَةٍ، فَلِذَلِكَ قَالُوا‏:‏ “أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا“‏؟‏ يَقُولُونَ‏:‏ وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا، وَلَيْسَ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا سِبْطِ الْخِلَافَةِ“‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا‏}‏، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ لَمَّا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ‏:‏ سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ‏!‏ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ‏:‏ ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ‏}‏‏؟‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ فَبَعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ مَلِكًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ‏:‏ سِبْطُ نُبُوَّةٍ وَسِبْطُ مَمْلَكَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ طَالُوتُ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ‏.‏ فَلَمَّا بُعِثَ لَهُمْ مَلِكًا، أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَجِبُوا وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ‏}‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَلَيْسَ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ“ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ أَمَّا ذِكْرُ طَالُوتَ إِذْ قَالُوا‏:‏ “أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ“‏؟‏ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ‏:‏ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا النُّبُوَّةُ، وَكَانَ فِي الْآخَرِ الْمُلْكُ، فَلَا يُبْعَثُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَمْلِكُ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ كَانَ مَنْ سِبْطِ الْمُلْكِ‏.‏ وَأَنَّهُ ابْتَعَثَ طَالُوتَ حِينَ ابْتَعَثَهُ وَلَيْسَ مِنْ أَحَدِ السِّبْطَيْنِ، وَاخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏.‏ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ‏}‏، وَلَيْسَ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ السِّبْطَيْنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَـ “ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ “ إِلَى‏:‏ “وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ“‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى‏}‏ الْآيَةَ، هَذَا حِينَ رُفِعَتِ التَّوْرَاةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَتِ الْجَبَابِرَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ “ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ“، وَذَلِكَ حِينَ أَتَاهُمُ التَّابُوتُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ‏:‏ سِبْطُ نُبُوَّةٍ وَسِبْطُ خِلَافَةٍ، فَلَا تَكُونُ الْخِلَافَةُ إِلَّا فِي سِبْطِ الْخِلَافَةِ، وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ إِلَّا فِي سِبْطِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ“، وَلَيْسَ مِنْ أَحَدِ السِّبْطَيْنِ‏:‏ لَا مَنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَلَا سِبْطِ الْخِلَافَةِ‏؟‏ “ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ“، الْآيَةَ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى “ الْمُلْكِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ الْإِمْرَةُ عَلَى الْجَيْشِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ أَمِيرَ الْجَيْشِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمَثَلِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ أَنَّى“، وَمَعْنَى “ الْمُلْكِ“، فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ“، قَالَ نَبِيُّهُمْ شَمْوِيلُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ “اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ“، اخْتَارَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ“، قَالَ‏:‏ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ‏}‏، اخْتَارَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ “وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ“، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَسَطَ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَآتَاهُ مِنَ العِلْمِ فَضْلًا عَلَى مَا أَتَى غَيْرَهُ مِنَ الذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا الْخِطَابِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ أَتَاهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا “ فِي الْجِسْمِ“، فَإِنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي طُولِهِ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُؤْتَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ‏:‏ لِمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏‏.‏ قَالَ‏:‏ وَاجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَكَانَ طَالُوتُ فَوْقَهُمْ مِنْ مَنْكِبَيْهِ فَصَاعِدًا‏.‏

وَقَالَ السُّدِّيُّ‏:‏ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَصَا تَكُونُ مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا‏.‏ فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا‏.‏ فَقَاسُوا طَالُوتَ بِهَا فَكَانَ مِثْلَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنْ السُّدِّيِّ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ “ مَعَ اصْطِفَائِهِ إِيَّاهُ “ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ“‏.‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ بَسَطَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏، بَعْدَ هَذَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏247‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَبِيَدِهِ دُونَ غَيْرِهِ “ يُؤْتِيهِ“، يَقُولُ‏:‏ يُؤْتِي ذَلِكَ مِنْ يَشَاءُ، فَيَضَعُهُ عِنْدَهُ وَيَخُصُّهُ بِهِ، وَيَمْنَعُهُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَا تَسْتَنْكِرُوا، يَا مَعْشَرَ الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَإِنَّ الْمُلْكَ لَيْسَ بِمِيرَاثٍ عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَسْلَافِ، وَلَكِنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، فَلَا تَتَخَيَّرُوا عَلَى اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ‏}‏، الْمُلْكُ بِيَدِ اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ، لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَخْتَارُوا فِيهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ مُجَاهِدٌ‏:‏ مُلْكُهُ سُلْطَانُهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ‏}‏، سُلْطَانَهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ “ وَاللَّهُ وَاسِعٌ “ بِفَضْلِهِ فَيُنْعِمُ بِهِ عَلَى مَنْ أَحَبَّ، وَيُرِيدُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ “ عَلِيمٌ “ بِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِمُلْكِهِ الَّذِي يُؤْتِيهِ، وَفَضْلِهِ الَّذِي يُعْطِيهِ، فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ لِمَا أَعْطَاهُ أَهْلٌ‏:‏ إِمَّا لِلْإِصْلَاحِ بِهِ، وَإِمَّا لِأَنْ يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ‏.‏